لم يمض على مطالبة إدارة أوباما لإسرائيل بوقف جميع أنشطتها الاستيطانية في الأراضي المحتلة، بما فيها ما يسمى بـ"النمو الطبيعي" للوحدات الاستيطانية القائمة، سوى ما يزيد قليلاً على العام ونصف. حينها كانت الإدارة قد وصفت النشاط الاستيطاني بـ"عدم الشرعية"، وبدت على استعداد لتصعيد ضغوطها على إسرائيل لأبعد الحدود، حتى تظهر لأي مدى تدرك الولايات المتحدة أن هذا النشاط معيق لعملية السلام. ولكن ها هي واشنطن تبدي استعداداً لتعويض إسرائيل عن وقف جزئي فحسب لبعض أنشطتها الاستيطانية. وبذلك تكون هذه هي المرة الأولى التي تكافئ فيها واشنطن تل أبيب على سوء سلوكها. وفيما يلي نقدم تلخيصاً للعرض الذي قيل إن وزيرة الخارجية الأميركية قد تقدمت به لإسرائيل. فسوف تقدم الولايات المتحدة حزمة من الأسلحة المتقدمة والمساعدات المالية لإسرائيل، بقيمة إجمالية تصل إلى عدة مليارات من الدولارات، مقابل تعهد إسرائيل بوقف أنشطتها الاستيطانية لمدة ثلاثة شهور فحسب، لا تشمل الاستمرار في بناء الوحدات الاستيطانية بمدينة القدس. وخلال هذه الفترة تأمل واشنطن في أن تتفاوض إسرائيل والسلطة الفلسطينية بهدف الوصول إلى اتفاق فيما بينهما على ترسيم الحدود النهائية للدولة الفلسطينية التي سيعلن عن قيامها مستقبلاً. ومن ناحيته يدرس مجلس الوزراء الإسرائيلي العرض الأميركي الأخير، بينما طالب واشنطن رسمياً بإرسال رسالة تتضمن شروط العرض. وهذه فكرة في غاية السوء بالطبع. فبينما سيأتي اليوم الذي تندم فيه واشنطن على تقديمها رشوة واضحة لإسرائيل، كذلك سوف يأتي اليوم الذي تأسف فيه تل أبيب كثيراً على قبولها لرشوة أميركية فاضحة كهذه. ذلك أن معارضة واشنطن لاستمرار إسرائيل في بناء المزيد من الوحدات والمنشآت الاستيطانية، أسفر عنها فرض العقوبات على إسرائيل وليس مكافأتها على سوء سلوكها في الماضي. وتمثلت هذه العقوبات في اقتطاع واشنطن من ضمانات ديونها لإسرائيل مبلغاً يعادل فيه كل دولار مقتطع، نفس الدولار الذي أنفقته إسرائيل في بناء الوحدات الاستيطانية في الأراضي المحتلة. وعلى رغم صحة ما يقال حول غض واشنطن طرفها عن دعمها غير المباشر لأنشطة إسرائيل الاستيطانية في الأراضي المحتلة -مثل إجراءات الخفض الضريبي على المنظمات الأميركية الممولة للنشاط الاستيطاني-فإن هذه الصفقة الأخيرة تختلف اختلافاً كبيراً من ناحية حجمها وتأثيراتها المحتملة على مسار عملية السلام. وفيما لو مضت الصفقة الأخيرة كما هو متوقع لتنفيذها، فسوف تكون هذه المرة الأولى التي تجني فيها إسرائيل مكاسب طائلة من أنشطتها الاستيطانية، التي ظلت تعارضها الولايات المتحدة الأميركية منذ ما يزيد على 40 عاماً. ولم يتضح بعد ما إذا كانت واشنطن قد أحسنت حساب العواقب التي يمكن أن تسفر عنها صفقتها المقترحة هذه. ومن بين الأسئلة التي يثيرها التفكير في أمر هذه الصفقة: هل تكافئ واشنطن الفلسطينيين بالقدر ذاته على الكف عن "سلوكياتهم السيئة"؟ وعلى سبيل المثال: هل تكافئهم واشنطن على الكف عن التحريض على إسرائيل في المواد الصحفية التي ينشرونها، وكذلك ما ينشر عبر بعض المقررات المدرسية عن إسرائيل؟ ثم هل تكون المكافأة التي قدمتها واشنطن لإسرائيل قابلة للتجديد تلقائياً، بمعنى هل تتجدد هذه المكافأة تلقائياً بمجرد إبداء إسرائيل رغبتها في وقف أنشطتها الاستيطانية لثلاثة شهور أخرى؟ أم أن حزمة أكبر من المكافآت سوف تعرض عليها في حال إبداء رغبتها في تمديد فترة وقف الأنشطة الاستيطانية؟ ثم ماذا عن تنفيذ هذه الصفقة؟ هل تطالب واشنطن إسرائيل باسترداد الأموال والمساعدات العسكرية التي قدمتها إليها، فيما لو علمت باستمرار أنشطة استيطانية على رغم الصفقة المبرمة مع تل أبيب، حتى وإن تكن تلك الأنشطة قد تمت دون إذن تل أبيب أو الحصول على تصريح رسمي منها؟ وهكذا تمتد قائمة التعقيدات والمشاكل المحيطة بالصفقة هذه، لدرجة أنه لم تعد ثمة مفاجأة في أن تبدي واشنطن من الآن ندماً على ما تطوعت به لحل مشكلة استمرار النشاط الاستيطاني. بيد أن لهذه الصفقة تأثيراتها وعواقبها بعيدة المدى دون شك، وينبغي أن تكون مثيرة لقلق إسرائيل ومخاوفها بالذات. ففيما لو مضت الصفقة كما هو مقرر لها، فإن من شأنها أن تهز أساس الشراكة الأميركية-الإسرائيلية القائمة. فمنذ عقد الثمانينيات، ظلت واشنطن وتل أبيب في تعاون وثيق بينهما فيما يتصل بتقييم الوضع الأمني الإسرائيلي، بينما تعهدت واشنطن بتوفير الضمان اللازم لتفوق إسرائيل النوعي العسكري على مجموع جيرانها وخصومها العرب المحتملين في المنطقة. وقد ظل هذا التعهد الأميركي ثابتاً وغير خاضع لتقلبات الدبلوماسية والسياسة بين الدولتين. عليه، فمهما كان موقف العلاقات الأميركية-الإسرائيلية، أو عملية السلام، فلا شأن لتعهد أميركا بدعم الأمن الإسرائيلي بهذه العلاقات والتقلبات. غير أن الأمر لن يكون كذلك فيما لو تم تنفيذ الصفقة الأخيرة كما أريد لها. ذلك أن إخضاع حاجات الأمن الوطني الإسرائيلي لمطالب سياسية من قبل واشنطن، يعني أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قد جلب خطراً عظيماً على أمن بلاده، بجعل احتياجاتها الأمنية ظاهرة طارئة عارضة، قابلة للتفاوض والأخذ والرد عليها بين تل أبيب وواشنطن. وبذلك تصبح هذه الاحتياجات الأمنية مجرد ورقة يتم التفاوض عليها وفقاً لما تفعله أو لا تفعله تل أبيب في دفع عملية السلام قدماً! وإذا ما "اشترت" اليوم واشنطن وقفاً قصير المدى لأنشطة إسرائيل الاستيطانية، فما الذي يتعين عليها أن تشتريه غداً من تل أبيب؟ وطالما أن الشراكة الاستراتيجية الأميركية- الإسرائيلية قد أصبحت موضوعاً للعرض والطلب، والبيع والشراء، فلأي مدى من الجدية يمكن أن يأخذ أعضاء الكونجرس والمخططون الدفاعيون الأميركيون بالحجج التي تثيرها إسرائيل فيما يتعلق بحاجاتها الدفاعية الأمنية، خاصةً إذا ما كانت تل أبيب تبدي استعداداً الآن لتسويق "أصناف" إضافية من سياساتها من أجل الحصول على جيل جديد من الطائرات الأميركية المقاتلة المتقدمة؟ وهل ثمة من يعتقد فعلاً بوجود صلة ما بوقف النشاط الاستيطاني لمدة ثلاثة شهور، مقابل تلبية حاجة تل أبيب إلى المزيد من الطائرات الحربية الحديثة؟ في الإجابة عن هذه الأسئلة يجب القول إن هذه التكتيكات القصيرة النظر بين واشنطن وتل أبيب سوف تورط كليهما في علاقة قصيرة المدى كذلك. بل تساهم هذه الصفقة الأخيرة في ظهور العشرات من اللاعبين الدوليين والإقليميين الذين يطالبون واشنطن بمكافأتهم على سوء سلوكهم مثلما فعلت مع إسرائيل! ولكن يجب القول إن هذه الصفقة لم تبرم بعد بين واشنطن وإسرائيل. وطالما هي صفقة سيئة، ولن تكون نتيجتها سوى الندم على إبرامها من كلا الطرفين، فإن ذلك يعني أن الوقت لم يفت على التراجع عنها. وهذا ما نأمله. دانيل كيرتزر سفير أميركي سابق لدى مصر وإسرائيل، يعمل حالياً محاضراً بجامعة برينستون ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبرج نيوز سيرفس"